في وقت يُعاني لبنان من أزمة اقتصادية حادة هي الأسوأ في تاريخه، وفي ظل الانهيار المتواصل لليرة أمام الدولار الأميركي من دون أن يُحاسب أحد من المسؤولين، أصدرت الغرفة الثالثة الجزائية في محكمة التمييز قبل أيام قراراً يمنع ملاحقة حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، حسب قانون النقد والتسليف إلا بطلب من المصرف المركزي نفسه.
ويُفهم من القرار أنّه لا يُمكن تحريك دعوى الحق العام بحق سلامة أو أيّ من موظّفي المصرف المركزي في الجرائم المتعلّقة بقانون النقد والتسليف إلا بناءً على طلب هذا الأخير، ما يعني أن أي ملاحقة له ولأي موظف لن تتم.
ملاحقة سلامة
وفي السياق، اعتبرت أستاذة القانون المتخصّصة بالشأن المصرفي، سابين الكيك لـ”العربية.نت” “أن قرار محكمة التمييز لا يعني وقف ملاحقة حاكم مصرف لبنان بجرائم قانون العقوبات، لأن هناك مخالفات ارتكبها لا تأتي ضمن سياق قانون النقد والتسليف”.
وأسفت “لأن قانون النقد والتسليف أعطى صلاحيات واسعة للحاكم تتعارض مع الدعاوى المرفوعة ضده. فهو مثلاً رئيس هيئة التحقيق الخاصة في المصرف المركزي التي تُحقق في ملفات تبييض أموال، فكيف يُمكن أن يُحقق في ملف مُرتبط به”؟
لا قرار سياسياً
كما اعتبرت “ألا قرار سياسياً اليوم بملاحقة حاكم مصرف لبنان. ولو كانت الحكومة جدّية بالمحاسبة لاتّخذت قراراً سريعاً بتقصير ولايته تمهيداً لمحاكمته”.
وقالت “المسألة لم تعد مرتبطة بإجراءات وأصول ضيّقة مرتبطة بما يقوم به سلامة، وما إذا كان خالف القوانين وإنما بالوضع القائم في لبنان. فلو كان هناك قرار جدّي بمحاسبته لكُفّت يده عن حاكمية المصرف بالتوازي مع تعديل قانون النقد والتسليف، وذلك إلى حين صدور نتائج التحقيقات في القضايا المرفوعة ضده”.
دعاوى الخارج أفضل
إلى ذلك، اعتبرت أستاذة القانون “أن الملفات التي تُحضّر ضد سلامة أمام محاكم خارجية أفضل من الموجودة في الداخل، لأنها مُعزّزة بالأدلة وبالمستندات المُسرّبة من لبنان”.
من جهته، وصف المحامي، فؤاد دبس، عضو رابطة المودعين لـ”العربية.نت” قرار محكمة التمييز “بالمسخرة”، إذ منع الملاحقات ضد سلامة.
واعتبر “أن القرار يؤكد وجود تضارب مصالح بين السلطات القضائية والطبقة السياسية الفاسدة في لبنان”.
ولا تقتصر “مخالفات حاكم مصرف لبنان على قانون النقد والتسليف بحسب دبس، وإنما تتسرب إلى القانون الجزائي عبر الاحتيال وضرب الثقة بالعملة الوطنية والمصارف”.
وتحمّل جهات سياسية في لبنان سلامة مسؤولية انهيار العملة الوطنية، التي فقدت أكثر من 90% من قيمتها منذ 2019، وتنتقد بشكل حاد السياسات النقدية التي اعتمدها باعتبار أنّها راكمت الديون. إلا أن سلامة دافع مراراً عن نفسه قائلا إن المصرف المركزي “موّل الدولة ولكنه لم يصرف الأموال”.
دعاوى في أميركا وبريطانيا
إلى ذلك، أكد دبس “أن هناك ملفات فُتحت ضده وضد قوى سياسية عديدة في الخارج، ونحن كرابطة مودعين قدّمنا المساعدة في الدعاوى التي رُفعت بحق حاكم مصرف لبنان أمام القضاء السويسري والنيابة العامة الفرنسية، كما أن هناك دعاوى تُحضّر ضده في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية”.
يذكر أنه منذ خريف العام 2019، رُفعت شكاوى قضائية عديدة ضد حاكم مصرف لبنان بجرائم مخالفة الأحكام العامة لقانون النقد والتسليف، بدءاً من المخالفة للمادة 91 من القانون التي نصّت بشكل واضح على سلطة الحاكم الاستنسابية في منح الدولة القروض وتحديد الدين العام، بحيث يصبح الحاكم المسؤول الأول والمباشر عن مديونية الدولة.
جرائم اختلاس
يذكر أن قرار محكمة التمييز الجزائية أتى عشية مثول حاكم مصرف لبنان غداً الثلاثاء أمام النيابة العامة التمييزية لاستجوابه بجرائم اختلاس الأموال العامة والتزوير والإثراء غير المشروع وتبييض الأموال والتهرب الضريبي، في جلسة هي الثانية بعد الأولى في 5 أغسطس/آب الماضي.
ويلاحق سلامة من قبل القضاء السويسري بسبب شبهات بعمليات اختلاس لأموال قدّرت بأكثر من 300 مليون دولار أميركي بالتعاون مع شقيقه ومساعدته.
ففي كانون الثاني/يناير الماضي، طلبت النيابة العامة الفيدرالية في سويسرا مساعدة قضائية من السلطات اللبنانية التي أرسلت في شباط/فبراير “النتيجة الأولية” لديها بعد الاستماع لإفادات سلامة وشقيقه ومساعدته.
في فرنسا أيضاً
وكما في سويسرا كذلك في فرنسا، حيث فتحت النيابة المالية الوطنية في يونيو/حزيران الماضي تحقيقا في مصدر ثروة حاكم مصرف لبنان في أوروبا نتيجة شكوى قُدّمت في نيسان/أبريل في باريس، حيث يملك عقارات عدة وتحويلات مالية مشبوهة، بالإضافة إلى شكوى أخرى من منظمة “شيربا” التي تنشط في مكافحة الجرائم المالية الكبرى و”جمعية ضحايا الممارسات الاحتيالية والجرمية في لبنان” التي أنشأها مودعون خسروا أموالهم في الأزمة التي تشهدها البلاد منذ 2019.
في المقابل رد سلامة على التُهم التي تطال مصدر ثروته، مؤكدا “أن أمواله كلّها مصرّح بها وقانونية وأنه جمع ثروته مما ورثه وعبر مسيرته المهنية في القطاع المالي”.
كما أوضح في حينه “أن أصوله الشخصية كانت تبلغ 23 مليون دولار” حين تسلّم منصبه عام 1993، وأن “زيادة ثروته مذاك ناجمة عن استثمارات لا تتعارض مع الالتزامات المرتبطة بمهامه”.