من حيث المبدأ، أعلن مصرف لبنان أنّه سيستمر بالعمل بالتعميم 151 لمدة ستة أشهر. وهو التعميم الذي ينظّم عمليّة سحب الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة، وفقاً لسعر الصرف المحدد حالياً عند مستوى 3900 ليرة. لكنّ هذا الإجراء صاحبه تسرّب أخبار من المصرف المركزي، تشير إلى أن الحاكم في طريقه إلى تضييق الخناق المفروض على عمليّات السحب التي تتم من الحسابات المصرفيّة بجميع العملات، في محاولة للتعامل مع أسباب ارتفاع سعر الصرف، على حساب أصحاب الودائع والحسابات المصرفيّة. مع العلم أن هذا الأسلوب جرّبه الحاكم سابقاً في تشرين الأوّل الماضي، في إجراءات هدفت إلى تجفيف السوق من السيولة بالعملة المحليّة، ما أدّى إلى أزمة كبيرة على مستوى أصحاب الحسابات المصرفيّة بالعملة المحليّة والعملات الأجنبيّة، من دون أن يتمكّن مصرف لبنان من لجم الارتفاع الكبير في حجم السيولة المتداولة بالليرة.
التجربة الفاشلة السابقة
منذ البداية، لم ينص التعميم 151 على أي سقوف موحدة أو متدرّجة بحسب قيمة الوديعة للحسوبات النقديّة بالليرة من الودائع المقومة بالعملات الأجنبيّة. كما لم ينص على أي ضوابط أو معايير لعمليّات فتح الحسابات الجديدة، التي قد تتم للاستفادة من سقوف سحب إضافيّة. ولهذا السبب، جرى تطبيق التعميم باستنسابيّة وباختلاف كبير بين المصارف، وبين عملاء المصرف نفسه، بحسب درجة نفوذهم أو قربهم من إدارة المصرف. لا بل تحوّل التعميم نفسه إلى مصدر من مصادر تمويل المصارف لرواتب موظفيها، عبر بيع الموظفين الدولارات وفقاً للسعر الرسمي القديم، أي 1520، على أن يقوموا بسحبها وفقاً لسعر صرف التعميم 151، وبذلك تفادت المصارف دفع أي زيادات في قيمة أجور الموظفين لديها.
في تشرين الأوّل الماضي، اتخذ الحاكم قراراً بالحد من قيمة السيولة التي يسلّمها للمصارف بالليرة اللبنانيّة، محاولاً الحد من أسباب طباعة النقد بالليرة. ولذلك، فرض على المصارف إجراءات جديدة تقضي بسحب أي مبالغ تفوق الحد المخصص لها من شهادات الإيداع الموظفة لديه، مع شطب فوائدها، ما يعني تكبيد أي مصرف خسائر معتبرة إذا تجاوز سقف السحب النقدي الإجمالي المخصص له. لكن مصرف لبنان لم يتدخّل ليفرض سقوف موحدة أو متدرّجة للسحوبات النقديّة وفقاً للتعميم 151، أو حتّى من حسابات العملاء الموجودة بالليرة، كي يضمن عدالة سقوف السحب النقدي بين المودعين، بعد أن تخفّضها المصارف نتيجة القرارات المستجدة.
ولهذا السبب، كانت النتيجة فرض قيود قاسية على السحوبات النقديّة بالليرة من حسابات توطين الراتب بالليرة، ومن حسابات معظم أصحاب الودائع بالدولار الأميركي، الذين كانوا يسحبون الدولارات وفقاً لآليّة التعميم 151، فيما استمر العملاء المحظيين بالاستفادة من سقوف سحب مرتفعة من دون أن يتأثروا بهذه القرارات.
ورغم قساوة هذه الإجراءات التي جرى تطبيقها باستنسابيّة بين المودعين، ورغم أثرها الكبير على انتظام عمل المصارف، فشلت الخطة في تحقيق أي نجاح يُذكر على مستوى ضبط تضخّم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة في الأسواق. فبين بداية تشرين الأوّل من العام الماضي، تاريخ بدء تنفيذ هذه الإجراءات، ومنتصف شهر شباط الماضي، ارتفع حجم السيولة النقديّة المتداولة بالليرة من 23.74 ألف مليار ليرة، إلى نحو 33.85 ألف مليار ليرة لبنانيّة، ما يعني أن حجم هذه السيولة ارتفع منذ ذلك الوقت بنسبة 42.58% خلال فترة لا تتجاوز الخمسة الأشهر.
أسباب فشل الخطة في ذلك الوقت، رغم قسوتها على أصحاب الودائع وحسابات التوطين، كانت واضحة. فمصرف لبنان كان يطبع المال للعديد من الأسباب الأخرى، كتمويل عجز الدولة وإنفاقها، وتمويل عملية سداد سندات الدين بالليرة اللبنانيّة لمصلحة المصارف، والهندسات الماليّة الجديدة التي كان يجريها في آخر السنة لمساعدة المصارف على تصحيح أرقامها في نهاية السنة. وهكذا، دفع اللبنانيون ثمن الإجراءات، من دون أن يستفيدوا من ضبط حجم السيولة بالليرة أو خفض سعر الصرف.
العودة إلى التجربة الفاشلة!
رغم الفشل الفظيع الذي مُنيت به الخطة السابقة، عاد مصرف لبنان إلى الخطة نفسها ليفرض المزيد من التشديد على حجم السيولة التي سيتم تسليمها إلى المصارف بالليرة، تحت وطأة الضغط على سعر صرف الليرة حاليّاً. وكما في المرّة السابقة، لم يصاحب هذه الخطة أي تعديل في بنود التعميم رقم 151، ليتأكّد مصرف لبنان من عدالة سقوف السحب بين المودعين بعد تخفيضها في الفترة المقبلة. ولهذا السبب، من المتوقّع أن يدفع ثمن هذه الإجراءات مرّة جديد أصحاب الودائع العاديين بالدولار، وأصحاب حسابات التوطين بالليرة، من دون أن تمس المحظيين الذين يستفيدون من سقوف استثنائيّة ومرتفعة. مع العلم أن التعميم الذي أصدره الحاكم، والذي قضى بتمديد فترة العمل بالتعميم 151، كان فرصة لتعديل مندرجات التعميم وفرض سقوف موحدة أو متدرجة بحسب قيمة الوديعة، لكنّ مصرف لبنان لم يفعل ذلك.
وكما في المرة السابقة، لم يقم مصرف لبنان بأي معالجة للأسباب الأخرى التي تدفعه لطباعة النقد بالليرة، كدفع ديون الدولة للمصارف بالليرة، أي تسييل الدين العام، وتمويل عجز الدولة. وبالتالي، فمن المتوقّع أن يدفع المودعون وأصحاب حسابات التوطين مرّة أخرى كلفة تقييد كمية النقد الذي يضخ من خلالهم إلى السوق، من دون أن يصاحب ذلك أي تصحيح جذري للأسباب الأخرى التي تدفع الكتلة النقديّة بالليرة إلى التضخّم، ومن دون أن يصاحب ذلك أي تحسّن في سعر الصرف.
مع الإشارة إلى سقوف السحب المنخفضة حاليّاً، نتيجة إجراءات مصرف لبنان السابقة، وصلت إلى حد عجز الكثير من أصحاب حسابات التوطين عن سحب قيمة رواتبهم الكاملة من المصارف، سواء كانت هذه الرواتب بالليرة أو بالدولار المصرفي. ومن المتوقّع أن يؤدي المزيد من الانخفاض في سقوف السحب إلى أزمة معيشيّة كبيرة قد تطال الكثير من أصحاب حسابات توطين الراتب.
3900: سعر الصرف العبثي
يوم أصدر مصرف لبنان التعميم 151، لم يحدد أي آليّة لتحديد سعر الصرف المعتمد للسحوبات النقديّة بالليرة اللبنانيّة، بل ترك المسألة مرهونة بسعر الصرف الذي يحدده بشكل اعتباطي ومن دون أي معيار واضح. ومع الوقت، ارتفع الفارق الكبير بين سعر الصرف المعمول به للسحوبات بالليرة، وسعر الصرف الفعلي في السوق، حتّى أصبحت خسارة المودع تقارب ثلثي قيمة الوديعة إذا قرر سحب أي مبلغ من حسابه المدولر، وفقاً لآليّة التعميم 151.
تعميم مصرف لبنان الذي قضى بتمديد العمل بالتعميم لم يحدد أي آليّة جديدة لاحتساب سعر الصرف المعتمد لهذه العمليات، ما يعني إبقاء الاعتباطيّة التي تحكم حاليّاً تحديد سعر الصرف المعتمد. أما مسألة رفع السعر المعتمد للسحوبات بقرار مصرف لبنان، فظلّت طوال الفترة الماضية حلماً يراود أصحاب الودائع، وشائعة تتردد كل فترة في أوساط المضاربين في سوق الشيكات، بينما يتكتّم مصرف لبنان بشدّة بخصوص هذا الموضوع لحساسيّته واتصاله بمسألة المضاربات وتجارة شيكات “اللولار” في السوق السوداء.
المنصّة الجديدة: امتصاص المزيد من السيولة
بمعزل عن حسابات مصرف لبنان وخططه في ما يخص أصحاب الودائع، يراهن المصرف المركزي على إعادة الإطلاق الجديدة لمنصة للتداول بالعملات الأجنبيّة، لتمكينه من امتصاص المزيد من السيولة بالليرة اللبنانيّة، وهو ما يتكامل مع فكرة محاولة تقليص حجم السيولة المتداولة بالعملة المحليّة في السوق. فمصرف لبنان لا يخطط حاليّاً لتحويل المنصّة إلى باب من أبواب استنزاف احتياطاته بالعملة الصعبة، ولا إلى تحويل سعر الصرف المعتمد لها إلى سعر صرف مدعوم يفرض عليه التدخّل بشكل مستمر للحفاظ عليه. لكن مع بدء عمليّة رفع الدعم التدريجي، سيتمكّن مصرف لبنان من استعمال ما تبقى من احتياطات قابلة للاستخدام بشكل ضئيل جداً من خلال المنصّة، عبر شراء كميات كبيرة من السيولة بالليرة، باستخدام كميات محدودة من العملة الصعبة، كون المنصّة تعتمد سعر الصرف الفعلي المرتفع لا سعر الصرف المدعوم. علماً أن مصرف لبنان سيتكمن من استعادة هذه الكمية من الدولارات حين تشهد السوق إقبالاً على بيع الدولار الأميركي. وهكذا، تفسّر هذه الخطة التي يتم التحضير لها في مصرف لبنان عبارة “امتصاص السيولة كلما دعت الحاجة”، التي تضمنها خبر إطلاق المنصّة منذ أيام.
في كل الحالات، من غير المرتقب أن يكون للمنصّة أي دور كبير في السيطرة على سعر صرف الدولار، كما من غير المرتقب أن تؤدّي إجراءات مصرف لبنان بخصوص سقوف السيولة التي يتم تسليمها إلى المصارف إلى أي تطوّر إيجابي بخصوص حجم السيولة المتداولة بالليرة، بالنظر إلى استمرار مصرف لبنان بضخ السيولة بالعملة المحليّة في السوق لأسباب أخرى. كل هذه القرارات، ستظل في إطار محاولات الترقيع العبثيّة، طالما أنها لا تصب في إطار أي خطة متكاملة تهدف إلى التعامل مع جميع جوانب الإنهيار الحاصل بشكل شامل وجذري. فإفلاس القطاع المالي، وانهيار سعر الصرف، وإفلاس الدولة، باتوا ثلاثة أوجه لانهيار واحد، ومن المستحيل التعامل مع جانب واحد من هذا الانهيار من دون التعامل مع الجوانب الأخرى.